يبدو أن “الحروب غير المعلنة” التي تدور رحاها بين المندوبية السامية للتخطيط والحكومات المتعاقبة، متواصلة مع حكومة عزيز أخنوش، بحيث مازالت “الخلافات” تتسيد العلاقات بين المؤسستين، بسبب الأصل المستقل للمندوبية.
آخر فصول الحكاية، النقد الموجه إلى “مندوبية الحليمي” والتشكيك في أرقامها حول مناصب الشغل في القطاع الصناعي من طرف وزير الصناعة والتجارة في الحكومة الحالية، رياض مزور.
ورغم كل ذلك، مازالت المندوبية السامية للتخطيط تعتبر أن “الحيادية العلمية” هي الحمض النووي لتأسيسها، وتحرص على أن يظل عملها محصنا ومستقلا عن تأثير الفاعل السياسي. فكيف يمكن قراءة الصراع الخفي بين “مندوبية الحليمي” و”حكومة أخنوش”؟
“مؤسسة تقنية”
عبد الحميد بنخطاب، محلل سياسي، قال إن “المندوبية السامية للتخطيط مؤسسة دستورية تأسست بغاية توفير المعلومة الاقتصادية بشكل علمي وتقديم الاستشارات في باب الإحصائيات للحكومة للاعتماد عليها”، موضحا أن “الدور الأساسي لهذه المؤسسة ليس هو انتقاد عمل الحكومة، ولا إعداد تصورات عن تلك التي تقدمها الأخيرة”.
وحسب ما فسره بنخطاب لجريدة الفرشة تيفي، فإن “الإشكال الحقيقي هو أن ما نسجله كباحثين، هو أن المندوبية السامية للتخطيط تجاوزت سقف ما يجب أن تقوم به”، مبرزا أن “ليس من اختصاصها أن تقيم عمل الحكومة، بقدر ما يجبُ أن توفر لها معلومات اقتصادية، رغم أنها تبقى مستقلة عنها، ليستأنس بها المشرع والحكُومة”.
وشدد المتحدث على أن “المخططات الاقتصادية والأرقام وطريقة التعامل الرسمي، هي أشياء تبقى من صميم اختصاصات الحكومة”، مبينا أن “الحكومة يمكن أن تعتمد على أرقام مندوبية التخطيط أحيانا، إذا ما كانت المؤسسة التنفيذية لا تستطيع وضع رؤية واضحة في ظل انتفاء المعلومات الإحصائية، أو خشية أن تمنح الحكومة تصورات برؤية غير موضوعية للإحصائيات”.
“تبادل التشكيك أو التراشق بين الحكومة والمندوبية، يجب أن يذكرنا بأن ما علينا أن نتابعه ونحلله ونفككه هو ما تقوم به الحكومة، أي الحكومة بالمعنى المؤسساتي بغض النظر عمن يقودها أو التوجه الذي يحكم رئيسها”، يقول بنخطاب، مضيفا أن “المسؤول أمام الشعب وأمام البرلمان هو الحكومة. ومن ثمة، فمؤسسة الحليمي ليست مسؤولة من الناحية السياسية، بما أن وظائفها تقنية تتعلق بتقديم الأرقام”.
المتحدث يقصد أن “الأرقام التي تنتجها مؤسسة الحليمي لا تحاسبُ عليها، وحتى آليات اشتغالها وتجميعها للعديد من المعلومات غير معروفة جيدا”، منبها إلى كون “الحكومة تحاسب على كل صغيرة وكبيرة، في الجلسات الشهرية لمجلس النواب، وهناك الحساب الأخير الذي يكون المواطن هو من يقوم به خلال الانتخابات”.
وتعليقا على مسألة الثقة التي تحتلها “مندوبية الحليمي” عند المغاربة، قال بنخطاب إن “الحكومة هي التي ينبغي أن تحظى بثقة المواطن، لأن ثقته في مندوبية التخطيط مسألة شكلية”، مفسرا أنه “حتى لو انهارت الثقة، فلن تؤثر على عمل المندوبية، نظرا لدورها التقني”.
تباين في المناهج
من جهته، اعتبر الطيب إعيس، خبير اقتصادي، أن “الخلافات الحالية بين المندوبية السامية للتخطيط والحكومة، حين ننظر إليها من الجانب الاقتصادي الصرف، لا ترقى إلى درجة الصراعات، بقدر ما هي اختلافات في المرجعيات والمناهج فقط”، مشيرا إلى أن “كل مؤسسة رسمية تختار المنهجية التي توافق تصوراتها وتتماشى مع رهاناتها الرسمية”.
وأوضح إعيس، في تصريح لالفرشة تيفي، أن “الحكومة من الناحية السياسية، تحاول أن تعتمد مناهج تكون في صالحها، نظرا لثقل المسؤولية الأخلاقية والسياسية والهواجس الاقتصادية، وهذا طبيعي، ويجعلُ المناهج المُعتمدة متغيرة ومتحولة حسب الظرفية”، في حين إن “المندوبية السامية للتخطيط لديها منهج مختلف مستقر، تطبقه في مناسبات عديدة”.
وأبرز المتحدث أن المنهج المستقر لمندوبية التخطيط “لا يضعف من قيمة هذه المؤسسة، لكنه يعكس نوعا من التضارب في التصورات فقط”، مشيرا إلى أن “هناك، مثلا، اختلاف في نسبة النمو، التي تشكل رهانا حاسما بالنسبة للحكومة، فالمندوبية السامية للتخطيط لديها رقم أقل من رقم الحكومة، وذلك بسبب اختلاف المنهج والوسائل دائما”.
بالنسبة للخبير للاقتصادي ذاته: “اليوم، لدينا أرقام واقعية، وليس تقديرات فقط. ومن ثمة، تجد المندوبية السامية للتخطيط أنها غير معنية بالمزايدات والسجالات السياسية، أو بالتدافع الحزبي”، لافتا إلى أنه “لا يهمها أيضا أن تتوافق مع توجه الحكومة، أو أن تقدم أرقاما تدور في فلكها؛ هي تقوم بأدوارها وفق منهجيتها المستقرة منذ سنوات”.
وأفاد بأن “الحكومة لديها دائما توجه أن تظهر أن ما تقوم به يتجه في منحى تصاعدي، وأن الإنجازات جيدة، أي إنها محكومة بمصالح سياسية واضحة، وهذا غير مطروح في عمل المندوبية”، مقدما المثال بـ”قانون المالية الحالي 2023، الذي تمت المصادقة عليه السنة الماضية، والذي كانت نسبة النمو المسطرة فيه هي 4،5 في المائة، في حين إننا بعيدون جدا عن هذه النسبة اليوم”.
وخلص إعيس إلى أن “الخبير والدارس يفهم أن الصراعات لا أساس لها، ولا جدوى منها، وأن الأمر يتعلق فقط بتضارب في المناهج وفي وجهات النظر”، موضحا أن “عمل الخبير يستدعي متابعة هذه المناهج والمقارنة بينها واستخراج الخلاصات منها، لكن المواطن العادي يتيه بين كثرة الأرقام، ولا يعرف أي مؤسسة تقول الحقيقة”.
البت في مسألة الحقيقة، حسب إعيس، ليس شيئا ممكنا الآن، بل “التاريخ هو الذي سيحدد فيما بعد من كان يقول الحقيقة، بما أن حتى بنك المغرب بدوره لديه منهج مختلف عن المؤسستين، رغم أن كل المناهج مقبولة من الناحية العلمية”.
وتساءل: “من يقول الحقيقة إذن: مندوبية الحليمي أو الحكومة أو البنك المركزي؟”، وأجاب: “سننتظر حتى نهاية السنة لنعرف من الذي يعتمد منهجا أقرب إلى الواقع”.