وقّعت ثماني شخصيات عمومية، بينها مسؤولون حكوميون سابقون، مذكرة تحت عنوان “الحريات الأساسية في المغرب.. مقترحات إصلاحية” حول مطلب المساواة في الإرث والحريات الفردية وقضايا أخرى مختلفة، تم رفعها إلى رئيس الحكومة والأحزاب السياسية، وذلك في سياق (النقاش) الدائر اليوم بخصوص هذه القضايا؛ وقد تعمدنا وضع كلمة نقاش بين هلالين حتى لا نغالط القارئ، إذ لا يتعلق الأمر بنقاش حقيقي بل بمونولوج يقوم به طرف واحد.
من القضايا التي شكلت مطالب المذكرة تغيير الترتيب بين العصبة في الإرث، والسماح بإعطاء الوصية للوارث خلافا للنص الحالي للمدونة وللحديث النبوي “لا وصية لوارث”، والتنصيص على التوارث بين المسلم وغير المسلم، وزواج المغربيات من غير المسلمين، وحرية التجديف في الدين، وإلغاء عقوبة الإعدام، وتقنين الإجهاض، وتعديل الدستور في مادتيه الأولى والثالثة، وسنأتي عليه.
ومن خلال هذه المطالب يتبين أن المذكرة خالفت الكثير مما هو مجمع عليه في الإسلام والفقه الإسلامي مما سار عليه المسلمون طيلة قرون، وهذا لا إشكال فيه طالما أن تلك المطالب تحت مسؤولية أصحابها الموقعين بأسمائهم، وهي تدخل في نطاق الحق في الرأي؛ ولكن الإشكال الكبير الذي أثارني هو أن المذكرة في الحديث عن نوع المقاربة ذكرت بأن الموقعين طلبوا رأي “بعض علماء الدين المغاربة بشأن موقف الدين من كافة القضايا التي يتم تناولها في هذه الورقة”، ثم أوردت في خمسة أسطر موقف هؤلاء العلماء جاء فيه أن “القضايا المثارة هي خطوة مهمة في الإصلاح”.
ومرجع المفاجأة هو أن المذكرة لم تذكر ولو واحدا من هؤلاء “العلماء” الذين يوافقون على هذه المطالب ويعتبرونها “خطوة مهمة في الإصلاح”، إذ نعتقد أنه إذا كان هناك علماء يؤيدون تلك المطالب فهذا يعني أنهم قاموا باجتهاد غير مسبوق ويجب ذكر أسمائهم لكي يُعرفوا، ولكي يفهم المغاربة أن الاجتهاد بلغ درجة عليا بما ينهي الشكاوى الكثيرة من تخلف الاجتهاد، ويتعرف العلماء والباحثون على الأسس العلمية التي بنى عليها هؤلاء العلماء اجتهاداتهم؛ ذلك أن اجتهادا من هذا النوع لم يسبق إليه أحد جدير بأن يُعرف ويُعرف أصحابه، بل كان الأوفق أن يكونوا من الموقعين على المذكرة بدل الاكتفاء بمجرد التأييد.
لقد طالبت المذكرة بتعديل الفصل الثالث من الدستور الذي يقول “الإسلام دين الدولة، والدولة تضمن لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية”، واقترحت أن تصبح صيغة الفصل كالتالي: “الإسلام دين غالبية المغاربة، وضامنه أمير المؤمنين الذي يضمن للجميع حرية ممارسة الأديان والعبادات وحرية المعتقد”.. الشق الثاني من المقترح لا جديد فيه سوى التكلف، لأن الفصل الحالي يتضمنه، ولا نعرف لماذا تعمُّد وضع كلمة “ممارسة الأديان” مكان “ممارسة شؤونه الدينية”. ولكن الجانب الخطير في المقترح هو أنه يلغي الدولة من الحساب ويفرغها من هويتها الدينية، إذ إن تغيير عبارة “الإسلام دين الدولة” بعبارة “الإسلام دين غالبية المغاربة” يحول بؤرة التركيز ـ بتعبير اللسانيين ـ من الدولة إلى المواطن، بحيث تصبح الدولة كمؤسسة بلا هوية دينية، وإذا كانت إمارة المؤمنين جزءا مهما من هذه المؤسسة التي ترتبط مع المواطنين بعقد البيعة الشرعية، فإن من شأن هذا النص المقترح أن يصبح مع الزمن سيفا على رقبة هذه المؤسسة نفسها، بما يعني علمنة الدولة مستقبلا.
من المعلوم أن الكثيرين من دعاة المساواة في الإرث أو الحريات الفردية أو غيرها من القضايا غالبا ما يضعون الإسلام في موقع المتهم، ويظهر ذلك في الرؤية الأحادية وغياب التحليل الشامل، مما ينتج عنه عدم الموضوعية، وسنضرب مثالين عن ذلك من خلال المذكرة.
المثال الأول هو مطلب الحق في الإرث بالنسبة للأجانب، ويتعلق الأمر باليهود والمسيحيين من الأطفال والرجال والنساء المتزوجين أو الذين تربطهم علاقة قرابة بمسلمين، كما جاء نصا في المذكرة. وقد اقترحت هذه الأخيرة إدخال فصل في المدونة الجديدة يقول “إن الوريث بالنسب أو الزواج ممن يصطلح عليهم أهل الكتاب، مسيحيا كان أو يهوديا، يرث حصته من تركة المسلم المتوفى وكأنه مسلم”. ولا يهمنا هنا التأكيد على أن هذا الفصل يتميز بالغرابة كونه مخالفا لإجماع المسلمين وللنصوص المعروفة؛ ولكن ما يهمني أن أشير إليه هنا هو أن الموقعين على المذكرة ينظرون إلى نظام الإرث في الإسلام من منظور الإدانة، ولم ينظروا إلى الطرف الآخر وهم اليهود والمسيحيون، وكان عليهم ـ لو كانوا فعلا يتميزون بالشجاعة الأدبية ـ أن يوجهوا مذكرة مماثلة إلى السلطات الدينية لليهود والمسيحيين لإلغاء ما يمنع من توريث أتباع الدين المخالف في دينهم، ودون ذلك خرط القتاد؛ ذلك أن نظام الإرث في الإسلام لا يمنع فقط غير المسلم من وراثة المسلم، بل يمنع أيضا المسلم من وراثة غير المسلم، ولكن الموقعين على المذكرة يريدون أن يأخذ اليهودي والمسيحي من المسلم ولا يأخذ المسلم من اليهودي والمسيحي، وهذا قمة الإجحاف والظلم وعدم المساواة !!!.
ومثل ذلك أيضا ما يرتبط بمطلب حماية الحق في التجديف والمس بالمقدسات، بل في هذه النقطة بالذات تقع المذكرة في التخبط واللامسؤولية؛ فهي تريد منح الحق في التجديف لمن يطعن في المقدسات الدينية الإسلامية، ولكنها تسكت عن حق المسلم في التعبير والرأي دفاعا على هذه المقدسات. وسوف يزداد الاستغراب حين نعلم أن دعاة هذا النوع من الحريات هم أنفسهم الذين يستنكرون المساس بالديانة اليهودية أو المسيحية باسم نشر الكراهية.
والغريب هو أن المذكرة تكشف عن توجه واضح عندما تتطرق إلى الفصل 220 من القانون الجنائي الذي يعاقب كل شخص يجبر مؤمنا على تغيير دينه، إذ تقول المذكرة إن هذا الفصل يمكن أن يستخدم ضد “من يهاجمون الشعوذة بما يسمى دين والتيار الإسلامي المتشدد والعنيف”، فهي لا ترى من الإسلام سوى المشعوذين والمتطرفين، أما الغالبية العظمى من المسلمين المعتدلين والذين يقفون في الخط السليم للوسطية فلا اعتبار لهم.
وبعد أن تطالب المذكرة بإلغاء عقوبة الحبس فيما يتعلق بالقضايا المنصوص عليها في الفصل المذكور، وتعويضه بالعقوبات المالية الرمزية، تأتي بفقرة غريبة هي التالية: “في الواقع، من حيث المبدأ، فإن الإهانات حتى للرموز الدينية، وليس للكائنات البشرية الحية، لا يفترض بأي حال من الأحوال أن تسيء إلى المؤمنين الذين يحترمون آراء الآخرين ومعتقداتهم المخالفة”، ومرد الغرابة في هذه الفقرة هو أنها تتبنى الدفاع على التطاول على الرموز الدينية بطريقة مواربة، على أساس أن إهانة الرموز الدينية لا يعد إساءة إلى المسلمين، بل ما يعد إساءة هو إهانة الأشخاص الماديين الأحياء فقط، بمعنى أنه يمكن التعرض لشخصية النبي، ولكن لا يمكن التعرض لشخص حي يصلي عليه ! مع أننا نعرف أن المسلم يرى في شخص النبي أكرم منه، وقد يتجاوز عن دوس كرامته لكن لا يتجاوز عن دوس كرامة النبي.
أما ما يتعلق بموضوع المساواة في الإرث في نص المذكرة، وهو موضوع سنعود إليه لاحقا لضيق مساحة هذا المقال، فإننا نكتفي بالقول إن المذكرة تربط مطلب المساواة بين الرجل والمرأة بالمساهمة في خلق الثروة، وهذا فهم مادي مغلوط تماما لفلسفة الإرث في الإسلام. من المعلوم أن الإسلام يعطي الجنين في بطن أمه النصيب نفسه الذي يعطيه لأي وارث ذكر، فهل تساهم الأجنة في خلق الثروة؟ كما أن الإسلام ينص على أن الزوجة إذا مات زوجها بعد العقد وقبل الدخول فإن لها حق الميراث، فأين المساهمة في خلق الثروة بين رجل وامرأة لم يجمعهما سقف واحد ولو نصف ساعة؟.
إن المساواة في الإرث ليست ضمانة مؤكدة لجمع الثروة أو الاغتناء، ووجود نص يساوي بين الذكر والأنثى لن يحل المشكلات الاجتماعية، لأن من ليس لديه ما يرثه لن تنفعه مدونة مهما كان ما تنص عليه من الحقوق النظرية، والقرآن الذي وضع ذلك النظام في الإرث كان الموحي به إلى رسوله يعلم بعلمه الأزلي أن ذلك النظام لن يحقق الثروة؛ لأن علة وضعه العبادة والرضا لا صناعة تراكم رأس المال، وهو أيضا من وضع قواعد العدل الاجتماعي، إدراكا منه أن من يصنع الثروة هو نظام الحكم لا نظام الإرث. ولكن المعركة ضد نظام الإرث اليوم، بعيدا عن الأطراف التي لا يرضيها هذا النظام من منطلق إيديولوجي، هي معركة الطبقة البورجوازية التي لديها ما تورثه لأبنائها وتخشى على ثروتها من التفكك، وتريد أن تظل طبقة اجتماعية مغلقة تقوم بتحصين ثروتها، وهي ترى في نظام الإرث الإسلامي تهديدا لهذه الحصانة.